صمود غزة- ملحمة يومية في وجه الحرب والتهجير

مع اندلاع الهجوم الإسرائيلي الشرس على قطاع غزة المحاصر، يواجه سكانه الأبطال تحديين مصيريين: التحدي الأول هو الصمود الراسخ في أرضهم، والتأكيد القاطع على رفض التهجير القسري والتشرد المرير، والتحدي الثاني يتجلى في تحقيق نصر فلسطيني ثانٍ، أكثر وضوحًا وجلاءً، على الجيش الغاشم الذي اعتدى على أرضهم، بعد أن سطرت المقاومة الباسلة نصرًا مجيدًا في معركة الكرامة الخالدة عام 1970، مما يجدد الآمال العظيمة في التحرير والعودة.
يمثل هذان التحديان اختبارًا عظيمًا في ظل القوة العسكرية الهائلة للجيش الإسرائيلي، المدعوم بلا حدود من القوى الغربية الرسمية: عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا، بينما يشتد الخناق والحصار على قطاع غزة الصامد، ويتضاعف العبء الثقيل على كاهل المقاومة الباسلة، التي يجب عليها أن تدبر أمرها ذاتيًا، وتسعى جاهدة للحصول على السلاح الذي يمكنها من مواصلة القتال ببسالة، وتوفير الدعم اللوجستي الضروري لأفرادها، وعدم التخلي عن إدارة شؤون الشعب، في ظل الأهوال والمصائب التي حلت بعد يوم 7 أكتوبر البطولي.
إذا كان صمود المقاومين الأشاوس يكمن في قدرتهم الخارقة على مواصلة القتال بنفس الكفاءة والمهارة، فإن صمود الشعب الأبي يكمن في التكيف السريع مع الظروف القاهرة الصعبة، وإدارة كل فرد وكل أسرة وكل عائلة لحياتهم اليومية بطريقة تمنع المحتل الغاصب من تحقيق أهدافه الخبيثة في تهجير سكان القطاع، أو تحقيق نصر ساحق على المقاومة الشريفة، ثم تحديد من يدير شؤون أهل غزة بعد انتهاء الحرب.
وهكذا، يمثل كل يوم جديد فصلًا قاسيًا في عملية تعبئة الموارد النفسية والمادية، التي تمكن الغزيين الصامدين من تجاوز المحن المتواصلة، بعد تشريدهم من بيوتهم الآمنة، والإفراط في قتل الأبرياء بدم بارد، وشن حرب معنوية شرسة ضدهم، ومحاولة بث الفرقة والفتنة بينهم، وإزاحتهم إلى النقطة التي يعلنون عندها ضجرهم وضيقهم وتبرمهم، ثم استسلامهم في النهاية.
استعان الغزيون بذاكرة زاخرة بالمواقف والصور المؤلمة، ألفوها وتعايشوا معها على مدار الحروب السابقة، وعركوها جيدًا في سنوات الاحتلال الطويلة التي امتدت نحو أربعة عقود، ثم بالخبرة اليومية المتجددة في ظل الحرب الراهنة، التي لم يشهدوا لها مثيلًا من قبل، والتي فرضت عليهم التعامل مع التفاصيل الصغيرة للحياة على أنها شيء جوهري وثمين، وليست مجرد وقائع عابرة وأيام ضائعة، مثلما يعيشها غيرهم في شتى أرجاء العالم.
استنهض الغزيون قدرة البشر المذهلة على التكيف مع الألم عند حده الأقصى، ثم تحويل المشكلة إلى فرصة سانحة، والتحدي إلى استجابة إيجابية، والمحنة إلى منحة ربانية، والمأساة إلى ملحمة بطولية، واليأس إلى رجاء وأمل. وتطلب هذا منهم أن يعتنوا بإدارة الشأن اليومي، كأن كل يوم هو الحياة بأكملها، وأن يعترفوا ويقروا بأن دفع الثمن الباهظ هو جزء أصيل من العيش الكريم، وأنّ عليهم أن يعتبروا ما هم فيه ليس استثناء عابرًا، إنما قاعدة حياتية مقيمة، وكأن هذه هي الحياة الطبيعية، التي عليهم أن يحيوها، مادام أن وقف القتال ليس بأيديهم.
وتبرهن بعض التدابير اليومية البسيطة على تحقيق القدرة على هذا التكيف العجيب، فصار أهل غزة ينتجون كل يوم جديدًا في مسار التحايل الذكي على العيش، ويعرضون، بشكل عفوي وتلقائي، صورًا لذلك أمام عيون العالم كله، ولا سيما أمام إسرائيل، التي راهنت طويلًا على تفريغ حياة أهل غزة من كل أسباب التمسك بها، بعد تدمير هذا العدد الهائل من المباني، وضرب البنية التحتية الحيوية، من خزانات المياه، والمخابز، والمستشفيات، والموارد غير المادية مثل: المدارس، والجامعات، والمساجد، والكنائس.
في إدارة الشأن اليومي وفق الإمكانات المتاحة، رأينا مدرّسين يصرون بإصرار على مواصلة تعليم الصغار، وسط البيوت المدمرة والخيام المتناثرة في مساحات فارغة وغير آمنة، وبأدوات بسيطة للغاية، كانت موجودة في الحياة التعليمية قبل قرنين من الزمن. فالتلاميذ الصغار يفترشون الأرض، والمعلم الأمين يكتب الحروف والأرقام على سبورات بدائية مسنودة إلى أحجار أو معلقة على جُدر متآكلة. وعلى التوازي، رأينا مَن جمع الصغار في كتاتيب متواضعة لحفظ القرآن الكريم.
ورأينا نسوة فاضلات يسارعن إلى بناء أفران الخبز البسيطة، التي كان يعرفها الريف العربي قبل عقود مضت من الزمن، تعتمد على الحطب وقودًا. وهكذا أيضًا يتم إنضاج الطعام، ليجد الناس ما يسد رمقهم ويقيهم الجوع. ورأينا صغارًا أبرياء يقفون أمام أماكن توزيع الطعام وكل منهم يمسك بإناء ليأخذ فيه أي شيء تأكله أسرته، وكذلك أمام صهاريج الماء. ورأينا صيادين شجعان يغامرون بأرواحهم لالتقاط أرزاقهم من البحر المسكون بزوارق القتل الإسرائيلية، وفلاحين مكافحين يصرون على مواصلة الزراعة لإمداد الأسواق بأي شيء من الخضراوات والفاكهة.
ورأينا نساء أخريات يجلسن إلى ماكينات الخياطة القديمة لتفصيل ملابس لذويهن، أو يمارسن دورهن التقليدي في التهدئة من روع الصغار، أو مواصلة التعبير عن الرضا بقضاء الله وقدره بفقدان فلذات أكبادهن، رغم أن الألم يعتصر قلوبهن ويحرقها.
ورأينا أستاذ موسيقى مبدع يصنع نايًا من خراطيم بلاستيكية بسيطة، وينفخ فيه ليخرج موسيقى عذبة لافتة، يُسرّي بها عن النفوس المكلومة ويداوي الجراح. ورأينا قبله الرجل الذي اشتهر في العالم كله باسم "روح الروح" يدور على الخيام ليوزع ألعابًا بسيطة على الأطفال، ويجلس إليهم يلاعبهم ويشاركهم اللعب، ويقص على مسامعهم الحكايات المشوقة.
ورأينا صيدلانيًا هُدمت صيدليته بالكامل، يرتب أدويته القليلة في كوخ صغير تكاد تهزه الريح، ليس أكثر من أحجار رصها بعناية وإتقان، ويضع في مقدمته لافتة مكتوبًا عليها "صيدلية الدكتور إبراهيم". ومثله رأينا أطباء أفاضل، يستعملون إمكانات متواضعة في إسعاف مصابين بجروح بسيطة، وآخرين يجرون عمليات جراحية معقدة في البيوت المهدمة بلا مخدّر.
ورأينا رجالًا يتعاونون في نصب الخيام في العراء، معتمدين على أدوات بسيطة، تعينهم على إقامتها كي تأوي إليها الأسرُ المشرّدة، وغيرهم يتعاونون في حفر قبور جماعية يرصون فيها مئات الجثث لموتى مختلفي الأعمار، ثم يهيلون عليها التراب، داعين للراحلين بالرحمة والسكينة، واللحاق بقوافل الشهداء في جنة الخلد.
ورأينا رجالًا آخرين يسارعون بقلوب مطمئنة إلى دخول بيوتهم المتضررة قليلًا، حتى في شمال غزة، يرممون شروخ الجدران المتصدعة، ويسوون الأرضيات على قدر الاستطاعة، ويعيدون ترتيب ما تبقى من أثاث، كي تعود صالحة لأي عيش كريم في قادم الأيام.
ورأينا حفلات عرس بسيطة تُقام بين الخيام، لا يبحث فيها أهل غزة عن فرحة عابرة فقط، بل أيضًا يعلنون ولاءهم المطلق للقاعدة التي رسخوها على مدار عقود طويلة من الزمن والتي تقول: إن "أقوى سلاح هو رحم المرأة الفلسطينية". وعلى النقيض، رأينا النسوة يمارسن دورهن التقليدي في مواساة كل من فقدت عزيزًا أو قريبًا. ومن قلب الأعراس والمآتم تنتج القريحة الفلسطينية الجديدة الثرية الجديد من الأغاني والأهازيج والتعديد.
هذه الأفعال اليومية البسيطة، وغيرها الكثير، تشكل تفاصيلها المعنى الحقيقي لـ "ثقافة الصمود الأسطوري"، وتقدم للإنسانية جمعاء درسًا بليغًا وتجربة عميقة، لا يمكن أن تسقط أبدًا من ذاكرة المنشغلين بهموم الناس ومعاناتهم، ومعهم أولئك المعنيون بالبحوث الاجتماعية والنفسية والأنثروبولوجية، أو بالتجليات الروحية السامية، وكذلك من المتحمسين للدراسات الثقافية، التي ترى في اليومي والاعتيادي تعبيرًا حقيقيًا عن ثقافة البشر وإرادتهم في الحياة.